بوصلة مستقبل الاقتصاد السعودي بعد الأزمة المالية العالمية
د.عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب
لا يزال الاقتصاد السعودي يعتمد على صادرات النفط لأكثر من 88 في المائة من إجمالي الصادرات، ولم تتمكن السعودية هي وجاراتها دول الخليج حتى الآن من الخروج من هذا النفق المظلم الذي يخنقها وقت الأزمات العالمية، رغم أنها راعت عند وضع استراتيجيات التخطيط منذ أكثر من ثلاثة عقود تنويع القاعدة الإنتاجية لتنويع مصادر الدخل، ولكن كان التراخي والاعتماد على عائدات النفط المسيطر الأوحد على مسيرة التنمية الاقتصادية في دول المجلس لأسباب عدة لأن الاستراتيجيات السابقة عند إعدادها لم تصاحبها خطط سليمة وواضحة للتنمية البشرية وتوطين التقنية والتركيز على المعرفة, بل كانت تكتفي بطرح مشاريعها أمام العالم وهي لا تمتلك مقومات بنى أساسية لجذب تلك المشاريع، واكتفت بتوافر والتعويل على العوامل النسبية فقط، بينما كانت هناك جهات أخرى في العالم الناشئ أكثر جاذبية للشركات والرساميل كالصين ودول النمور الآسيوية، جعلت من القاعدة الإنتاجية في السعودية ودول الخليج محدودة جدا ما عرض الميزانيات للتذبذب الشديد، لكن تمكنت السعودية في الفترة الأخيرة منذ عام 2004 من بناء احتياطيات كبيرة من الموجودات الأجنبية وصلت نهاية أيلول ( سبتمبر ) إلى نحو 433 مليار دولار, وفي ظل انخفاض أسعار النفط الآن من 147 دولارا إلى 50 دولارا للبرميل, أي أصبحت الأسعار ثلث ما كانت عليه وخسرت الثلثين.
ولكن السؤال في ظل هذا الانخفاض الكبير جدا: كيف تعيد السعودية هيكلة تخطيط اقتصادياتها؟ وكيف تحقق السعودية طموحاتها التي بدأتها بمشاريع عملاقة كي تصبح دولة رائدة وتحقق استراتيجية تنويع قاعدة الإنتاج؟
بالتأكيد ستعاني السعودية عجزا قد يبلغ 28 في المائة من إجمالي الناتج المحلي مقابل فائض 30 في المائة هذا العام حين بلغ متوسط سعر البرميل 99 دولارا (تقرير لسيتي جروب).
لذلك أغفلت السعودية دعوات السير على خطى اليابان التي قدمت 100 مليار دولار في صورة تمويل طارئ لصندوق النقد الدولي, وكذلك رفضت الصين تقديم أموال إضافية إلى صندوق الدولي لإنقاذ الاقتصادات المتعثرة واختارت بدلا من ذلك التركيز على الإنفاق المحلي, وأعلنت الصين عن 586 مليار دولار وأيضا السعودية أعلنت عن إنفاق 400 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة بالإنفاق على المشاريع والخدمات الأساسية.
تقدر مصادر منظمة "أوبك" أن تكون هناك حاجة إلى استثمار نحو 2400 مليار دولار بحلول عام 2030 لزيادة طاقة إنتاج النفط واستمرار القدرة على تلبية الطلب العالمي، لكن التراجع الحاد في أسعار النفط يهدد بتأخير إنجاز المشاريع الجديدة, الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى عجز أكبر في جانب العرض حينما يتعافى الاقتصاد العالمي, وبالفعل أعلنت شركة أرامكو إعادة دراسة الجدوى الاقتصادية لمصافي الجبيل وينبع قبل طرحها لإنتاج 400 ألف برميل يوميا من الزيت الثقيل في مدينة ينبع على الساحل الغربي بالاشتراك مع شركة كونوكو فيليبس الأمريكية, وإنشاء مصفاة مشابهة في الجبيل الصناعية بالشراكة مع شركة توتال الفرنسية. وإعادة الجدوى هي نتيجة ظهور تطورات جديدة مثل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية, التي يتعين أن تضع الأسواق النفطية ذلك في الحسبان, لأن مشاريع "أرامكو" تتأثر مباشرة بأزمة السيولة المالية العالمية وصعوبة الحصول على التمويل والاقتراض من المصارف في عمليات التمويل والسعودية في ظل انخفاض وارداتها نتيجة انخفاض أسعار النفط, فلا بد أن تعيد النظر في مشاريع إنشاء مصاف للنفط كون الأرباح محدودة جدا في هذه المشاريع, ولا بد أيضا أن تعيد السعودية ترتيب أولوية الإنفاق على المشاريع في ظل انخفاض العوائد، وتبدأ بالمشاريع الاستراتيجية, خصوصا التي تسهم في تنويع القاعدة الإنتاجية لمواجهة التحديات والأزمات العالمية.
ولأول مرة منذ 30 عاما منذ أن بدأت الصين تحولها الرأسمالي أصبح هناك إدراك لوقوع الاقتصاد في أزمة حقيقية, ويزداد وضع الاقتصاد سوءا في المراكز الصناعية في جنوب الصين وهي المناطق التي ازدهرت في العقود السابقة بإنتاج الإلكترونيات والملابس والألعاب والأثاث التي تملأ أسواق التجزئة في الولايات المتحدة ومع هبوط التصدير بسبب تراجع الاقتصاد العالمي وارتفاع تكاليف المواد الخام والأيدي العاملة, انهارت أكثر من 68 ألف شركة صغيرة في البلاد في النصف الأول من عام 2008 وخسرت 2.5 مليون وظيفة في منطقة دلتا نهر اللؤلؤ وفقا لتقديرات حكومية، أي قبل حدوث عنفوان الأزمة المالية العالمية، لكن الصادرات لا تزال تحقق الآن فائضا في الميزان التجاري لأن العالم لا يزال يحتاج إلى البضائع الرخيصة نتيجة الخسائر التي مني بها المواطن الغربي أو خسرها في أسواق الأسهم.
لذلك اتجهت الصين إلى برنامج تنشيط الطلب المحلي الصيني وافق على أثرها مجلس الوزراء الصيني على عملية إنقاذ الاستثمار 586 مليار دولار حتى عام 2010, وستتوجه الاستثمارات نحو البنية الأساسية والرعاية الاجتماعية وغيرها من القطاعات الأساسية في إطار سياسة مالية نشطة رغم تجاوز الفائض في الميزانية الصينية في النصف الأول من العام الحالي نحو 170 مليار دولار, كما اتجهت الصين إلى سياسة نقدية أكثر مرونة وخفضت الفائدة ثلاث مرات منذ منتصف سبتمبر (أيلول ) في محاولة لدعم الاقتصاد, وستستفيد قطاعات محددة من الإنفاق الإضافي تشمل الإسكان الاقتصادي والبنية التحتية الريفية وشبكات النقل وحماية البيئة والابتكار التقني.
وحاولت الدول الغربية الضغط على الصين لتلعب دورا بناء في استقرار الوضع الدولي لأنها لا تزال تستفيد من نمو قوي وتملك أكبر احتياطي عملات أجنبية في العالم, نحو 1900 مليار دولار, لكن بكين ترى أن أفضل وسيلة لمساعدة الاقتصاد العالمي تكمن بالنسبة إلى الصين في الاحتفاظ بوتيرة النمو, وكان رد الاتحاد الأوروبي في 15/11/2008 بفرض رسوم إغراق على ما يصل إلى 60 في المائة من واردات الصين من الشموع المصنوعة في الصين, وما يصل إلى 50 في المائة من منتجات أسلاك الصلب, وفي الوقت نفسه يضع الاتحاد الأوروبي رسوم إغراق على الواردات الصينية, خصوصا في الصناعات الأوروبية التي انتقلت إلى الصين بسبب ارتفاع تكاليف العمالة فأصبحت الآن عرضة لرسوم الإغراق للحد من انتقال المصانع إلى الصين للحد من ارتفاع نسبة البطالة, خصوصا في ظل الأزمة الحالية التي رفعت نسبة البطالة.
إذاً الأزمة التي ستطول الصناعات البتروكيماوية رغم انخفاض نسبتها, التي لا تزيد على 20 مليار دولار إلا أنها تتأثر أكثر من الصادرات الصينية, لأن الصادرات الصينية صادرات نهائية وليست صادرات أساسية مثل الصادرات السعودية, فالتأثيرات العالمية ستطول شركات البتروكيماويات في الخارج قد تصل إلى تكبدها خسائر قد يضطر بعضها إلى تقليص نشاطها وإغلاق عدد من مصانعه .
وبالفعل انخفضت أسعار البتروكيماويات نحو 60 في المائة, فأسعار البولي بروبلين والبولي إثيلين على سبيل المثال كانت أعلى من ألفي دولار بينما الآن هي أقل من ألف دولار, هذا مع تراجع الطلب في الوقت نفسه, الأمر الذي سينعكس على النتائج المالية للشركات العاملة في هذا القطاع خلال الربع الأخير من هذا العام.
وارتفعت الاستثمارات الخليجية في صناعة الكيماويات والبتروكيماويات بنمو نسبته 5 في المائة خلال الفترة من 2000 إلى 2006 مرتفعا من 52 مليار دولار إلى 70 مليار دولار, أي تشكل 59 في المائة من إجمالي الاستثمارات الخليجية في الصناعات التحويلية البالغة 118.3 مليار دولار.
لذلك أدركت "سابك" نقطة الضعف في استراتيجياتها, خصوصا بعد الأزمة الحالية لتعيد النظر في استراتيجياتها مرة أخرى وتبني استراتيجيات جديدة قائمة على تنمية القدرات البشرية والتكنولوجية كي تتجاوز المستقبل مثل الاستحواذ على شركة البلاستيك الأمريكية, وهي تقنيات كبيرة وخبرات غير موجودة في أي شركة أخرى, فـ "سابك" بدأت تتجه الآن نحو صناعات أكثر تطورا قادرة على تحقيق قيمة مضافة أعلى مثل توقيع "سابك" أخيرا مع "إكسون موبيل للكيماويات" اتفاقية مبادئ مشروع مطاط صناعي جديد من أجل تنمية القطاع الصناعي وتنويعه بما في ذلك مجال صناعة السيارات.
أي أن السعودية تريد استثمار المستقبل لذلك فهي ستستمر في الإنفاق على اقتصاد المعرفة الذي كان أحد اسباب فشل الخطط السابقة خلال ثلاثة عقود والتي لم تتمكن من تحقيق استراتيجية تنويع قاعدة الإنتاج لتنويع مصادر الدخل, فهي أدركت أن الاستثمار في المعرفة لا يقل عن الاستثمار في البتروكيماويات, بل يفوقه, والآن تدعم السعودية ضمن الاستراتيجية الجديدة 40 ألف طالب في أنحاء العالم يدرسون في تخصصات تحتاج إليها سوق العمل عند عودتهم لقيادة التنمية الاقتصادية, هذا إلى جانب الاستمرار في الإنفاق على إنشاء البنى التحتية التي لم تتمكن في الماضي من بنائها نتيجة تذبذب مداخيل صادرات النفط الدخل الأوحد, فدول الخليج تنفق على الصحة 7 في المائة من الناتج المحلي بينما تنفق الدول المتقدمة 13 في المائة، وحاجة السعودية إلى أكثر من 100 ألف ممرضة خلال الأعوام الخمسة المقبلة فقط, وتشغل وزارة الصحة حاليا 105 مستشفيات وألفي مركز صحي وتحت الإنشاء نحو 116 مستشفى, كما أن السعودية المترامية الأطراف في حاجة إلى بناء شبكة من السكك الحديدية التي تأخرت زمنا طويلا وتأخرت بسببها إقامة برامج تنموية طموحة, إضافة إلى حاجة المدن الداخلية إلى بناء شبكات للنقل العام كي تتغلب على الاعتماد في النقل الفردي الذي أحدث اختناقات ولن تنتهي مشكلة الاختناقات حتى ولو تطورت بناء شبكات من الطرق الإضافية والكباري والإنفاق لأن النقل الفردي سيزداد إن لم تقم الدولة ببناء شبكة من النقل العام كالسكك الحديدية والمترو وغيرها من النقل العام.
وتحتاج السعودية إلى مزيد من تقديم بقية الخدمات الأخرى التي يعانيها المواطن العادي في ندرتها وارتفاع تكاليفها, خصوصا في تمديد شبكات المياه في جميع المناطق كي تتمكن هذه الخدمات من تقديم الخدمة الجيدة أسوة بشبكة الاتصالات التي تقدم خدمات جيدة وبأسعار تنافسية.
Dr_mahboob1@hotmail.com