رد: الملف الصحفي للتربية السبت 1/4
الوطن :السبت 1 ربيع الآخر 1430هـ العدد (3102)
من معالم المنهاج التاريخي الذي يدعو له الفيصل
شاكر النابلسي
-1-
ألقى الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، محاضرة مرتجلة، في 16/3/2009 في جامعة الملك عبدالعزيز، شملت عدة محاور، منها دعوته الثقافية لإعادة كتابة التاريخ السعودي، لإبراز جوانب الاعتدال الديني، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي في ذلك التاريخ، والتي جنَّبت المملكة ومن أخذ بذلك المنهاج، الكوارث والمصائب الكثيرة، التي عانى منها الشعب العربي، طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى يومنا هذا. واقتسم الأساتذة والطلاب من الجنسين، الأسئلة الموجهة إلى الفيصل، الذي طالب من خلال إحدى الإجابات، بإعادة النظر في مناهج التربية الوطنية ومناهج التاريخ السعودي المدرسي، قائلا:"إن كتب التاريخ المدرسي تُكتب بأسلوب المحطات التاريخية، وسرد المواقع والتواريخ، في حين يتوجب كتابة التاريخ بوصفه مادة غير جامدة، تستوعب الاقتصاد، والفكر، والثقافة، والمسببات. الأمر الذي يُفضي إلى فهم أشمل للإنجازات التي تحققت للإنسان السعودي وقيادته، منذ نشأة الدولة السعودية".
-2-
ليس التاريخ السعودي وحده هو المكتوب بأسلوب المحطات التاريخية وسرد المواقع والتواريخ، دون الالتفات إلى العوامل الاقتصادية والفكرية والثقافية والمسببات، التي أدت إلى النتائج التاريخية، ولكن معظم التاريخ العربي كله منذ ظهور الإسلام حتى اليوم كُتب بهذا الأسلوب. وفي هذا يقول كولينغوود الفيلسوف والمؤرخ البريطاني الوحيد، الذي ساهم مساهمة جدية في فلسفة التاريخ في العصر الحاضر في مؤلفه (فكرة التاريخ، 1945) إن النظر إلى التاريخ كمجرد تجميع للحقائق يكون محفوفاً بالمخاطر في معالجة التاريخ. ويصبح التاريخ وكأنه شيء من تلفيق العقل البشري. ومردُّ هذا إلى قصور رؤية المؤرخين، الذين كان أغلبهم من المؤرخين الدينيين، الذين لا يجيدون معرفة علوم أخرى.ويؤكد هذا إدوارد كار المؤرخ الشهير في كتابه (ما هو التاريخ؟) الذي تُرجم إلى العربية بعدة ترجمات مختلفة، نتيجة لأهميته للمؤرخين المعاصرين، ولقرّاء التاريخ المستنيرين كذلك بقوله:"قبل أن تدرس التاريخ أدرس المؤرخ في بيئته الاجتماعية والتاريخية. فالمؤرخ هو نتاج للتاريخ والمجتمع".وهذا ما سبق أن قاله، في قوالب مختلفة، عبد الرحمن بن خلدون في "المقدمة".
-3-
من ناحية أخرى، نرى هنا، أن منهاج التحقيب Periodization، وتقسيم التاريخ إلى حقب ليس واقعاً، وهو ما اعترض عليه الفيصل. فالتحقيب فرضية ضرورية، أو أداة للفكر، تعتبر سليمة، ولكن بشرط شارط، وهو أن تُضيء الوقائع والأحداث، وتعتمد في صحتها على التعليل.فمبدأ "العلة" من أكثر ما يشغل بال الفلاسفة. ويجد أرسطو أربعة معانٍ مختلفة لكلمة "العلة". فإذا نظرنا إليها من الناحية العملية، وجدنا أنها تدلُّ على حادثة تؤدي إلى حادثة أخرى. بيد أن المعلول لا يفتأ أن يصير علة بدورة. ويُرى العالم، وقد تألَّف من شبكة ضرورات، يمثل كل واحد منها معلولاً، وعلة معاً.
-4-
يتساءل المؤرخ المعروف إدوارد كار في كتابه (ما هو التاريخ؟):
ما هو التاريخ؟
ويجيب:إنه عملية مستمرة من التفاعل بين المؤرخ ووقائعه، وحوار سرمدي بين الحاضر والماضي.إذن، فالتاريخ ليس ماضياً فقط، ولكنه الحاضر أيضاً. بمعنى أننا يجب ألا نتوقف عن تفسير الوقائع التاريخية، كما فسرها من عاصروها، أو من كتبوا عنها فقط، ولكن يجب علينا أن نعيد قراءتها وكتابتها مرة أخرى، على ضوء المستجدات من العلوم المختلفة الكاشفة والمضيئة لجوانب جديدة من الحادثة أو الواقعة التاريخية. وهذا ما عناه خالد الفيصل – في ظني - بتوجيهه، لإعادة كتابة التاريخ السعودي، على ضوء علوم ومنجزات العصر الحديث، في مجالات مختلفة.
-5-
أما عن دور العناصر الأخرى في تشكيل التاريخ أو ما يُطلق عليه السببية في التاريخ. وهو ما قصده الفيصل في محاضرته تلك، وفي قوله: " يتوجب كتابة التاريخ بوصفها مادة غير جامدة، تستوعب الاقتصاد، والفكر، والثقافة، والمسببات. الأمر الذي يُفضي إلى فهم أشمل للإنجازات التي تحققت للإنسان السعودي وقيادته، منذ نشأة الدولة السعودية". فلقد حدد هيرودوتس (أبو التاريخ) غرضه من كتابة التاريخ، بقوله، إنه لتعليل الأسباب لكل حادثة أو واقعة. ولو طبقنا مثل هذا الكلام على بداية تاريخ الدولة السعودية الثالثة، ووجود "الإخوان" في تلك الفترة، والدور الذي لعبوه لا في تحقيق النصر وقيام "الكيان الكبير" عام 1932 من نجد والحجاز فقط، ولكن في مواقفهم الدينية المتشددة من تبني منجزات العصر الحديث المدنية والحضارية، لرأينا أن معظم المؤرخين لتلك الفترة، وعلى رأسهم أمين الريحاني، قد أهملوا هذا الجانب المهم من التاريخ. فإلى الآن، لم نقرأ في التاريخ السعودي لماذا عارض "الإخوان" وجود التليفون واللاسلكي ومن ثم الطائرات، والتلفزيون... إلخ. فلا بد أن لهذه المعارضة أسبابها التاريخية والاجتماعية والدينية والثقافية، التي يجب على المؤرخين المعاصرين الحفر فيها وإظهارها.وتفسير الأسباب لا يعني أننا ضد أو إلى جانب هذه الآراء معارضين، أو موافقين. ولكن الحفر في أسباب هذه الأفكار دينياً واجتماعياً وثقافياً، سوف يُخفف من دهشتنا الآن لهذه المواقف، وربما استنكارنا لها الآن، في حين أنها لم تكن – ربما – مستنكرة قبل سبعين عاماً أو تزيد، فيما لو دققنا النظر في الظروف التاريخية التي عزلت الجزيرة العربية في ذلك الوقت عن العالم سياسياً وثقافياً. فسبب واحد لا يكفي، وهو غالباً – كما يتردد دائماً – التعصب الديني المتشدد، أو الانعزال عما يدور في العالم.كذلك، فإن قدرة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود على توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932 يجب أن نردها بالإضافة إلى شجاعة وفروسية وطموح الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، إلى ظروف سياسية وعوامل اجتماعية واقتصادية، ساهمت دون شك في تتويج انتصار الملك المؤسس بوحدة نجد والحجاز، وقيام الكيان الكبير عام 1932.
-6-
لقد سبق للاقتصادي الكبير الفريد مارشال أن قال: "ينبغي تحذير الناس بكل الوسائل الممكنة من دراسة فعل سبب ما، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار الأسباب الأخرى التي تختلط آثارها به" (مذكرات الفريد مارشال، 1952، ص 428). ويقول إدوارد كار في كتابه سابق الذكر (ما هو التاريخ؟) "إن النظريات التي تشدد على دور الاتفاق أو المصادفة، لا بُدَّ من أن تسود الجماعة أو الأمة المتخلفة، وليست المتحضرة. وبالمثل في وجهة النظر القائلة، إن النجاح أو السقوط في الامتحانات مسألة حظ، أصبحت رائجة دائماً بين الفاشلين، وأن الصدفة التاريخية، هي اسم آخر لواقعة أو حادث تاريخي نعجز عن فهمه. أما ما قاله تولستوي من "أننا مرغمون على الارتداد إلى القدرية كتفسير للأحداث غير العقلانية، التي لا يُفهم منطقها" ففيه شيء من الحذر.
وللموضوع صلة.
* كاتب أردني
|