رد: الملف الصحفي للتربية الثلاثاء 2/6
الرياض:الثلاثاء 2 جمادي الأخر 1430هـ العدد 14946
وأخيراً.. بهكذا تتحقق لنا النهضة المتألقة وهذه معالمها
محمد بن أحمد الرشيد
لم يخطر ببالي وأنا أكتب حديث الثلاثاء بعنوان: (بهكذا تتحقق لنا النهضة المتألقة) أن تكون محل اتصالات كثيرة من عدد من الأصدقاء والقراء، ولا أن تكون موضوع نقاش طويل في زيارات لي لبعض مدن المملكة ومحافظاتها. لكني كنت أكتبها توخياً لأن تسلك بلادنا سبيل تحقيق النهضة المتألقة المرجوة لها من الجميع عن استحقاق وجدارة.
***
لقد جاء ضمن تعليقات الإخوة القراء تعليق بالغ الجودة، من رجل له قدوة في مجتمعنا، وله في نفسي منزلة كبيرة أيضاً.. وهو معالي الأستاذ الجليل الصديق العزيز جميل الحجيلان.. إذ هاتفني قائلاً: إنك محق في تركيزك على أهمية المعلم ودوره في إحداث النهضة التعليمية، وذكر مثالاً يؤكد ذلك قال: حين سأل أحد الوزراء في بلدنا رئيس وزراء سنغافورة عما حققته بلاده من تطور مذهل ونهضة متألقة كان جواب رئيس الوزراء السنغافوري إن مرد ذلك كله لجودة التعليم - فسأله الوزير: وكيف تحققت عندكم جودة التعليم؟ قال: بالمعلم.. وأردف السائل قائلاً: ثم ماذا بعد المعلم، قال مرة أخرى المعلم.. فاستزاد السائل تطلعاً إلى السبب، فقال للمرة الثالثة: المعلم، وأكدها بعد صمت طويل للمرة الرابعة: السبب في نهضتنا التي تسأل عنها هو هو المعلم.
***
إني أدرك أنه لم يكن فيما كتبته استيفاء لكل مطالب تحقيق النهضة المتألقة لكني تطرقت بإسهاب عن أهم العوامل الفاعلة في تحقيق هذه النهضة - ولم يكن ذلك شيئاً مبتكراً مني، أو تنظيراً غير واقعي - بل هو استقراء لما تحقق في كثير من البلاد التي يشار إليها بأنها الناهضة - إذ عندنا من الوسائل والإمكانات ما لو استثمرناه كله لتحققت لنا نهضة أعظم مما بلغناه الآن وحققه غيرنا، بل إني أقرر أن ماضينا الذي تبوأنا فيه موقعاً حضارياً متقدماً كان نتيجة توفر شروط النهضة عندنا آنذاك.
***
وكما أشرت في تلك المقالات أن مظاهر كثيرة من عوامل النهضة واضحة ملء العيون في بلادنا - لكنها ليست كل ما نرجو الوصول إليه في سلم الرقي والحضارة، وأن العناصر اللازمة لاستكمال مقومات النهضة الشامخة متيسرة بين أيدينا، وبالإمكان توظيفها إذا ما وجد وعي كامل بأهميتها وفاعليتها.
وكان همي الأول ولا يزال هو يقين يُجمع عليه المجتمع بكل فئاته أنه هو سبيل وحيد لتحقيق ما نربو إليه ونتطلع إلى استكماله.
ذلك هو الإنسان..
***
إنه يقين قاطع أن الإنسان هو صانع النهضة ولا وجود لنهضة بغير إنسان مؤهل وقادر على إنفاذها.
وسؤالنا هو: كيف نحقق إنساناً مهيئاً لتحقيق النهضة، على أكمل وجه.. إن هذا لا يتحقق إلا بصياغة الإنسان فكراً، وشعوراً، وروحاً. إذ إن ذلك لا يقل أهمية عن بنائه جسماً. فإذا تحقق ذلك وجد الإنسان المؤهل الذي يشعر شعوراً حقيقياً بالمسؤولية تجاه ما يؤديه من عمل وإيمان بأهمية ما يؤديه وأنه المسؤول الحقيقي عن ثمار ما يعمل صلح المجتمع وتحققت خطوات على طريق النهضة.
***
إن الحقيقة ماثلة أمام أعيننا أن كثيراً من الناس في مجتمعنا وخاصة العاملين في القطاع العام يعملون بدون نفس مشرئبة قانعة راضية مخلصة فيما تعمل.. وكأن بعضهم آلة صماء لا تشعر بما تفعل.
***
في ديننا الإسلامي أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض - وعليه مسؤوليات جسام في بناء حياة أفضل لنفسه ولغيره إعماراً للكون، وأداءً لخلافته في الأرض، وتفضيله بذلك على سائر المخلوقات.
***
لقد أسهبت في الحديث عن مؤسسات التعليم على اختلاف مراحلها على أنها أهم الأركان أو الدعائم التي تحقق النهضة المزدهرة لبلادنا من خلال عنايتها بهذا الإنسان.. وهناك أدلة كثيرة على ذلك من الواقع المعاصر.. فالرئيس الأمريكي جون كنيدي حينما أذيع سبق الاتحاد السوفيتي آنذاك في غزو الفضاء قال ما معناه: لقد نجحت مدارس الاتحاد السوفيتي، وعلى مدارسنا وجامعاتنا، أن توصلنا إلى مثل هذا النجاح - بل نسبقه -.
***
وقال المستشار الألماني منذ زمن غير بعيد حين تبين انخفاض معدل التجارة الخارجية لغير صالح ألمانيا في تلك السنة عما قبلها قال: راجعوا نظام التعليم عندنا.
هذا وغيره كثير - وينطبق على ذلك وأمثاله قول الشاعر:
وهل يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
***
إنه لا اعتراض عندي على هذا الشغف بامتلاك التكنولوجيا الحديثة بما في ذلك الحكومة الإلكترونية - واستثمار ذلك في الوسائط التعليمية - لكن الأهم من ذلك كله هو من يوقظ ويقدح شرارة الشغف بالتعليم، ويرغب في التمسك بالقيم والمثل العليا - ليكون سلوكاً عملياً ماثلاً في مجتمعنا المسلم.
ولا سبيل إلى التخلص من كل سلبيات تعوق تكامل نهضتنا إلا بشحذ العقول بما هو صواب من الفكر، ومستقيم من التربية.
***
بلادنا مثل سائر بلاد الدنيا استثمارها في ناشئتها هو الأكثر أهمية وإلحاحاً.. والاستثمار يكون بأن تكون هناك رأس صالح (وأقصد به المعلم) يستطيع تمكين من يعلمهم استخدام الحاسة النقدية والمبدعة.
***
نعم المعلم هو الرأس - ومتى صلح الرأس صلح الجسد كله - وأكثر ما يضير العملية التربوية هو هؤلاء غير المؤمنين بأهمية رسالتهم أو الجاهلين حقيقة معناها، والذين همهم الأول هو الانضباط الظاهري المتكلف المزيف، والطاعة العبودية من طلابهم - والتي صورتها - سابقاً - بوحش خرافي يلتهم الشخصية الإنسانية وهي لم تزل بعد غضة طرية في بداية حياة طلابهم.
قلت إنه وحش يرتكز على قوائم أربعة غليظة تنبئ بظهور ما سميته (أقنان المدارس - أو التلاميذ الأقنان) هذا الوحش الخرافي المرعب يقوم على:
1- الانصياع القهري.
2- التقليد الأعمى.
3- تعطيل الفكر.
4- أفول الروح.
***
أيها الأصدقاء والزملاء في كل عمل تربوي أعانكم الله.. وسدد على طريق الصلاح خطاكم؛ فمسؤوليتكم جسيمة.. ولا تترددوا في تخليص مؤسستنا التعليمية من كل عنصر ليس مناسباً لها، أو عمل معطل لمسيرتها.
أكرموا كل من ينتمي إليها بجدارة واستحقاق قدر عطائه ومقدار إخلاصه.
وليذكّر كل منكم الآخر بأنه حامل رسالة هي جزء من رسالة الأنبياء - وأنه مسؤول أمام الله وأمام الناس عن مدى القرب من الكمال فيما يؤديه.
أعرف أن الطريق طويل وشاق، وأن المثالية المرجوة في تحقيق الرسالة أمر صعب - فلنتغلب عليه بالإيمان وصدق اليقين.. لأنه حتماً من سار على الدرب وصل.
***
والقيادة التربوية في بلادنا (الآن) تملك من المقومات ما يمكنها من دفع عجلة التطور أكثر إلى الأمام، وذلك بالتركيز على الأمين (المعلم) الذي نودعه أغلى ما عندنا - فلذات أكبادنا -.
وجواباً عما سألني عنه كثير من القراء: كيف نوجد هذا المعلم الذي تصفه، والذي يقوم بتحقيق النهضة؟
وجوابي الموجز هو: انتقاء من يلتحقون بكليات التربية وكليات المعلمين.. طبقاً لمواصفات يعرفها المختصون.. ويكون تأهيلهم تأهيلاً وافياً كافياً.. ثم تعيينهم على مستوى وظيفي مرضٍ لهم، لائق بمكانتهم، ثم مواصلة تدريبهم وتقويمهم، وإشراكهم في كل فعاليات العملية التعليمية.
إنها أمانة.. ثقيلة جداً.. وليؤد كل من أؤتمن أمانته، وليتق الله ربه، وأبشروا بعد ذلك بنهضة متألقة نباهي بها دول العالم كلها.
***
وأخيراً.. إن النهضة المتألقة التي ننشدها والتي لا يحققها إلا تعليم جرى توصيفه في مقالات سابقة.. تتمثل هذه النهضة في معالم من أهمها:
1- بيئة محلية لا يشوبها تلوث في الأرض، ولا في الهواء.. ولا في المياه والبحار، وأمن وأمان يسود الوطن وينعم به المقيم، والمواطن.
2- أن يكون الفرد المناسب (رجلاً أو امرأة) في موقع العمل المناسب وفق جدارته وقدراته، وما هيئ له من أسباب النجاح في هذا العمل، لا محسوبية، ولا محاباة في تقليد الوظائف كافة.
3- شعور صادق قوي واضح بالمواطنة عند كل مواطن، يتمثل ذلك في الحفاظ على مقدرات الوطن ومكتسباته، والمساهمة الجادة في إضافة الجديد من الإنجازات إلى ما فيه من ظواهر النهضة، ومكافحة ما يبدو من غلو فكري، وتطرف سلوكي، ولا مبالاة عند البعض فيما يعملون.
4- إسهام واضح وجلي في التقدم العلمي والحضاري مواكبة لما حولنا في العالم.. بل وسبق له ان استطعنا، وذلك بشحذ الهمم، واكتشاف المواهب والقدرات، والأخذ بأيدي النجباء والنابغين، وما أكثرهم في بلادنا.
5- تكافل اجتماعي، وفرص متساوية.. أمام الجميع، بحيث لا يشعر أحد بالغبن أو تدني ما هو فيه من عمل يتناسب وكفاءته، أو أجر لا يتفق مع مسؤولياته وعطائه.
6- سمو أخلاقي عند الجميع، بحيث تسود أخلاق الإخلاص، والصدق، والأمانة.. وبذل الجهد الخالص في العمل.. مع نبذ للشره، والجشع، والأنانية واللا مبالاة، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
7- بنية تحتية متطورة ومتجددة، ومرافق متكاملة تصان وتحسن على الدوام تشمل كل المتطلبات الحضارية، والمدنية (تعليمية، صحية، طرق ومواصلات.. إلخ).
8- إجراءات قضائية متطورة، ومرونة إدارية - في غير تسيب - تحقق المصلحة العامة بسرعة وكفاءة طبقاً لخطوات عملية غير معقدة - ولا معطلة لصالح المواطنين والمقيمين على السواء.
9- تفوق في الميزان التجاري بين مملكتنا، والدول الأخرى، بحيث تكون صادراتنا من البضائع المصنعة محليا أكثر من وارداتنا، مع قيمة مضافة على كل صناعة نصدرها. بجانب العمل على الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان، غذائياً، وكسائياً، وغير ذلك.
هل تراني أحلم.. لكني أثق أن الحلم سيكون بهذه الأمور حقيقة..
***
وفقنا الله جميعا إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.
|