شركات الأسمنت في فخ النمو الوهمي

على الرغم من الأرباح التي حققتها البنوك السعودية خلال الربع الأول من هذا العام إلا أنها لبست ثوب الخسائر الحزين وهي تعلن عنها بينما، تجاوبت السوق المالية سلبيا مع هذه الأرباح المعلنة وتجهم المحللون وهم يقولون أم أم!؟ وكأني بالمستثمر الصغير العادي البعيد عن قطاع الأعمال وتعقيداته يسأل وباستغراب لماذا هذه الأناة رغم الأرباح المعلنة؟ ولماذا كل هذا الانعكاس السلبي لهذه الأنباء؟
المشكلة ببساطة هي تلك الكلمة التي تثير الرعب في قلوب رؤساء مجالس الإدارات وكبار موظفي الشركات المدرجة في الأسواق المالية على وجه الخصوص، إنها "النمو". والتي تشير إلى البقاء والاستمرار في عالم الحياة وهي في الاقتصاد وبيئة الأعمال والشركات تعنى، إضافة إلى تلك المعاني المهمة، البقاء في سوق المال وارتفاع القيمة السوقية للأسهم التي يتم تداولها. وهذا النمو له مقاييس متعددة أهمها مقدار الزيادة في رقم الأرباح عن فترة مقارنة أو متوسط صناعة أو عام. فالشركة التي تحقق زيادة (نمو) في رقم الأرباح من فترة إلى فترة تعد شركة ذات وضع صحي مثالي وتغذية سليمة (من حيث كفاءة استخدام الثروات المتاحة لها)، وتدل تلك القدرة على البقاء وعلى المستقبل الآمن، أما إذا تراجع معدل النمو في الأرباح (على رغم الأرباح) فإنه مؤشر على المرض واعتلال الصحة ومشكلات في القيادة وسوء التغذية الناتجة عن عدم الكفاءة في استخدام الموارد بشكل جيد. وهذا المرض قد يكون بسيطا مؤقتا لا يلبث أن يزول وسببه في الغالب مشكلات خارج الشركة حيث تزول الأعراض بزوال المشكلة، وأحيانا يصبح النمو سالبا, وهناك تناقص في ثروات الشركة قد تحتاج معه إلى عملية إعادة الهيكلة و تضطر إلى استئصال جزء من عملياتها.
وفي حالات أخرى، وهي قضية هذا المقال، تحقق الشركة نموا - أو حتى الصناعة بشكلها العام - لكنه نمو وهمي يخفي مرضا أو أمراضا مزمنة. فالنمو قد ينتج بسبب أعمال خارج نشاط الشركة الرئيسي بينما أعمالها الرئيسية لم تحقق من ذلك شيئا بل قد تحقق تراجعا خطيرا، وأحيانا يعود السبب في ذلك النمو للتلاعب في رقم الأرباح (إدارة الأرباح) من خلال تأجيل الاعتراف بالعديد من المصروفات، أو التلاعب في تقديرات الديون الجيدة. وبعض هذه الحالات يمكن اكتشافها ويأتي دور مراجع الحسابات لحماية السوق في كشف هذه الأعراض وعلى المحللين تشخيص المرض.
ومن حالات النمو الوهمي ذلك الذي ينتج من تغير في الأسعار لظروف بعيدة عن سيطرة إدارة المنشأة، إما نتيجة لضغوط التضخم مثلا أو تأثر جانب العرض أو الطلب لسبب أو لآخر، بينما لو تم استبعاد هذه الظروف والمستجدات لوجدنا أن النمو ضعيف بل لا يكاد يذكر. فمثل هذا النمو الوهمي يغلف أداء الإدارة السلبي تجاه استغلال الموارد بشكل أفضل فتُظهر القوائم المالية أداء جيدا بينما الحقيقة أن شيئا لم يتغير. هذا النوع من الشركات التي تعتمد على النمو الوهمي قلما تتجه إلى توزيعات الأرباح على شكل منح وتعتمد على التوزيعات النقدية الثابتة ما يزيد في تعقيدات التحليل. فالمستثمرون في الأسواق الناشئة يفضلون الشركات التي تقدم توزيعات نقدية ودائما ما تقيّم إدارات هذه الشركات بشكل جيد من السوق، بينما في الحقيقة أنها لا تمتلك خططا توسعية أو استراتيجية واضحة المعالم للمستقبل ما يعزز ثروات المساهمين، لذلك فهي لا تسعى إلى تغليف العجز الاستراتيجي بالتوزيع النقدي الثابت.
تعرضت شركة الاتصالات قبل عملية التخصيص لمثل هذا النوع من النمو ومازالت تتأثر به، بينما شركات الأسمنت في المملكة عرضة أكثر من غيرها لمشكلاته. فسوق الأسمنت في المملكة تمر الآن بازدهار غير مسبوق بينما معظم شركات الأسمنت وصلت في إنتاجيتها إلى مستوى الطاقة القصوى، وهذا يعني أن الأسمنت أصبح من السلع مضمونة البيع، وبخاصة مع الإنفاق الحكومي غير المسبوق على البنى التحتية في شتى المجالات. لهذا، ومع بقاء جميع ظروف شركات الأسمنت كما هي دون تغيير ومنها مستوى الطاقة الإنتاجية، فإنه من المتوقع أن ما ستنتجه لهذه السنة هو ما تم إنتاجه خلال السنة الماضية من حيث الكمية، لذلك فإنني لا أتوقع نموا حقيقيا في الأرباح، وأي نمو لا يصاحبه توسع حقيقي في طاقة المصانع يقتضي منا أن نحلله بشكل دقيق ونعيده إلى أسبابه الرئيسية. فمثلا استطاعت بعض شركات الأسمنت في السنة الماضية أن تحقق نموا كبيرا في الأرباح، لكن معظم هذا النمو يعود إلى أسباب لا تدل على الكفاءة بل إلى تغيرات في الأسعار والطلب نظرا لمشكلات عديدة تعرضت لها سوق الأسمنت في المملكة، ومعظم هذه الأسباب والتغيرات لم تكن في سنة المقارنة الماضية لذا ظهر النمو بشكل ملفت وتباين الأداء في ذلك القطاع بشكل غريب.
ما يهمني التأكيد عليه في هذا المقال هو الحرص عند تفسير الأرقام المحاسبية، فالمحاسبة كلغة للأعمال هي أرقام يمكن تفسيرها بما يتلاءم ومستوى القارئ لها، وهي تخفي، وللأسف، أكثر مما تظهر وتخدع أكثر مما ترشد إلى الحقيقة. فيجب فهم هذه الأرقام في ضوء المؤشرات الاقتصادية العامة للبلد وللصناعة ولابد دوما من تطوير أساليب المقارنة وتحليل جودة الأرباح وهو أمر قلما يناقش.
