رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||
|
|||||||
الهجرة عن البلدة الصغيرة
الهجرة عن البلدة الصغيرة الهجرة عن البلدة الصغيرة الهجرة عن البلدة الصغيرة الهجرة عن البلدة الصغيرة الهجرة عن البلدة الصغيرةما الذي جعل ثلاثة رجال عاقلين يهجرون بلدتهم الصغيرة-معا- في صباح يوم صحو،والبلدة تكاد تكون في حالة تلهّف إلى سيرك أكبر؟!فعلى بعد ميلين اثنين كان ثمة تجمع صغير لقوّات عسكرية تتدرّب،جاؤوا من زمن،وبمجرد أن صلّوا الجمعة مع المسلمين صاروا بين حين وحين يجيئون ثلاثة ثلاثة أو اثنين اثنين،أو فرادى،لشراء لوازم كأطعمة تجعلهم غرابتها عليهم يشترونها،أو ملابس يجعلهم شوقهم إلى إناثهم البعيدات يشترونها ويحشرونها في صررهم،وكانوا عفيفين شرفاء بشهادة كل الناس. بعد وصول نبأ نكسة 67 قال الجنود الذين جاؤوا إلى البلدة للناس إن هذا آخر بقاء لهم،وإن الضابط المسؤول نبههم إلى التعبئة ليغادروا غدا،ولذا كان من الغريب أن يهجر الشبّان الثلاثة البلدة التي تربّوا فيها وترعرعوا،غير آبهين بتفويت متعة مشاهدة رحيل العسكر،وهو ما لم تفوّته أي عجوز بلا قدرة،ولم يتأخر عنه إلا من كان بلا قدمين،وليس هؤلاء بمتعددين في البلدة الصغيرة حتما! لقد رأيت أن أجعل هذا العرض ذيلا لعنوان هو:الهاربون من مسؤولية الشرف.ولكن العنوان جاء باهتا بسبب لفظة:"مسؤولية"،ولكن لنتجاوز هذه الإشكالية ولننصرف إلى اختيار الزمن،ويناسبني أن يكون زمنا بعيداً في عمرنا قريباً قريبا في آلامنا،لأنه كان قبل نكسة عام سبعة وستين بأيام،وحدثت النكسة،وهجر الرجال الثلاثة بلدتهم،وتفرق الجند. إذا كان في هذه المقدمة شيء غير سهل الفهم فلا سهل إلا ما جعله الله سهلا،ولأنّ هذه الحكاية حكاها الأب الوقور بهذه الصيغة تحديدا،في هذا اليوم الذي نحن فيه والذي نقرأ فيه قصتنا،حكاه لابنه الذي لا يشبهه في شيء. صفة الوقار تستدعي أن نتخيل الشيخ بلحية طويلة كثيفة إنما ناعمة ومتفاصلة الخصل،كلحية زيوس اليوناني أو أيّ كان،العجوز نحيل وفمه ينضح لعابا طفيفا له رائحة عتيقة،وثنايا تتخلها لثات غامقة الحمرة،وعيناه مشفقتان خائفتان لكنهما متماسكتان؛لأنه يحافظ على كرامته ولا يسمح لنفسه أن يقول لابنه: "ابق معنا لأننا سنجوع إذا غادرت". وعوضا عن ذلك يختار طريقة قديمة لكن ناجعة:وهي أن يتظاهر بالحكمة ويحكي حكاية خيبة من غادروا أوطانهم في فورة أوهام الشباب.والابن متين سمين،عيناه كسولان تجاه ما يقوله أبوه لأنه غير مستعدّ للاقتناع،وليستا كسولين لأنه غير مصمم على السفر وترك عائلته للريح،الشبه الوحيد الذي تلتقطه العين بينهما -مع كون الابن حليق اللحية كثّ الشارب متينا- هو الأذن:فالأذن طويلة قاسية كأذن العجوز. غاية الأب من القصة–كما قلنا لكن نعيده للتكرار- هي منع ابنه من الهجرة عن البلدة الصغيرة كما هجرها أولئك الثلاثة الذين فروا؛ليغطوا على منتهك شرف إحدى الأسر الكريمة،ولتضيع المسؤولية بينهم فلا يتم اصطياد أحدهم،وعلى هذا الأساس،رحلوا في نفس الوقت،ولكنهم ما إن جاوزوا البلد حتى تفرقوا وتفرقت مصائرهم وعاشوا بلا شرف بالتأكيد كما يقول الأب. أتوخى الحذر من أي تعبير قد يؤدي إلى تفسير غير وارد على أنه رمز محتمل،وأغتاظ جدا ممن يتخلون عن إمكانيات القصة كحكاية قائمة بذاتها،بهدف تعريض بنْيَتها للاحتمالات!وحرصا مني على كسر هذا الاعتقاد أكشف أن التفرّق الذي حصل للجند ليس بسبب فجيعة النكسة،والرجال الثلاثة لم يهجروا بلدتهم لأن النكسة أفقدتهم عقولهم وهاموا على وجوههم مجانين إلى ما يشاء الله. وأنا أسمح لنفسي فأقاطع حكاية الجد قبل أن تبدأ؛لأني أفرش البساط لحكايته بإبداء الخفايا التي لا يعلمها هو،بل إنه عاش حتى الآن وهو لا يعلمها وقد يموت قبل أن يعلمها: فالرجل الأول عبر جنوبا من الأردن إلى حدود السعوديّة،إلى هنا حيث نحكي الحكاية،لا يدري أين يستقرّ حتى أوصلته قدمه إلى الحرم،واكتشف أن العيش واكتساب الرزق ما زال يمكن بقراءة القرآن وتدريسه،فالتزم الحرم وجاور حتى مات على مشارف حرب الخليج الثانية (حرب العراق)،ولا نستطرد هنا في حكايته،بل نلتفت لنتذكر أن الجدّ في باكورة هذه الحرب استعاد مشاعر جيل حرب رمضان،أو حرب كسر التفوق العسكري لإسرائيل،وبتوفر التلفاز الذي لم يكن متوفرا زمن النكسة صار ينظر إلى صورة الجلبي وبعض المعارضين قائلا:الحمير معلّفين مضبوط،ولكن ما إن انتهت الحرب باستسلام بغداد حتى أصبح الصباح وابنه يريد ترك هذه البلدة التي تأتيها المآزم العامة بمآزم خاصة بها وحدها:بتخلي أبنائها عن تربتها.والأشد إيلاما هو أنهم يخرجون لأسباب غير أسباب الهزيمة،ويتخلون تحت مظلة هذه النكسات عن وطنيتهم وهم أبرد قلوبا من كل المهزومين،بل ربما لم يفقدوا دمعة واحدة لأجل أي معركة انتصر فيها المستعمرون على أبناء جلدهم.وتحت تأثير هذا الإدراك المفزع صار يقول:المصيبة تعم والطبخة مطبوخة لنفقد أبناءنا ولو لم يموتوا في الحرب،أمريكا الملعونة طبختها هذه المرة مضبوط. لا حاجة للقول أن البلدة تطورت تطورا خارجيا -لا غير- في فترة البضع والثلاثين سنة التي طافت العالم من النكسة إلى احتلال العراق،وعادت إلى جسد العجوز وهو يحاول إقناع ابنه الوحيد بالبقاء ليرعاه هو وزوجته قبل أن يترمل أحدهما!تطورت البلدة تطورا خارجيا لا لون له:بيوت الصفيح ليست كما كانت بل هي بيوت طوب بعضها مليّص بالأبيض،المزارع ليست كما كانت بل يوجد مولد ومولّدان لا تعجز العين عن رؤيتهما هنا وهناك،الفوانيس لا تضاء إلا إذا انقطع الكهرب،كما هي الحال بالنسبة لهذه الليلة وهما يجلسان في ضوء الفانوس وظلال حركتهما تتعملق وتتضاءل،لكن الجدران منذ ذلك العهد البعيد ما زالت قصيرة بلا عوازل عن الحرارة ولا تقي بظلها شيئا من وقدة القيظ،قيظ يونيو عام ألفين وثلاثة بالنسبة للبلدة كقيظ سبعة وستين. -يا بني لا تكن كالذين هجروا بلدهم بادعاء البحث عن لقمة عيش لتطوير البلد،أولئك لم يكونوا وطنيين،ولكنهم هجروا بلدهم لأجل الرغد. كان هذا مبلغ علمه،وإلى هذا الحد انتهى شرحه،ويجب علينا ألا نستهين بهذا الاستنتاج مقارنة بعجوز لم يغادر بلدته إلا عبر الراديو والتلفاز،عجوز معذور،ولكن بتأثير علم الحساب ندرك أن محاولته الإقناع كانت ستبدو أمتن وأقوى لو كان يعرف مصائر الثلاثة المهاجرين،والراوي هو المسؤول عن تغطية هذا اللبس،ويفترض به أن يدرك هذه الأحداث ويطلعنا عليها،لأنّ حواسّنا جميعا لا تطال أبعد من حدود قريتنا أو بلدتنا أو مدينتنا.وهو يعرف أنّ الشاب الثاني منهم عبر إلى سوريّة وتشطّر وتلطّف حتى خلع ثوبه وعمامته ووقف بشفاعة رجل وجيه على باب جريدة في سوريّة،وما هي إلا سنوات حتى تورّط في مشاكل حزب البعث بحماة وساهم في قتل أبناء وطنه الجديد.وهكذا فقد طعم حياته وعاش أمام ذكرى إثمه،بدلا من أن يبقى حتى تتم تبرئته وينكشف من هو منتهك الشرف من شباب البلدة،وكان حينئذ خليقا بأن يبقى ذكره وعرض أسرته بلا علامات استفهام يمكن التعريض بها في أي مشاجرة مع من يساوي ومن لا يساوي،وهو ثمن لا يستهان به في تلك الأرجاء ولو استدعى أن يخاطر بحياته من أجل استحصاله،هذا غير أن جرائمه الدموية إذا ما وصلت أنباؤها إلى البلدة مستقبلا فسيكون من السهل ربطها بتهمته القديمة ولو كان بريئا منها! الثالث من الشبان الهاربين وصل بطريقة ما إلى لبنان وعبر إلى أمريكا،وسكن في زقاق بولاية لوس أنجلوس،ومات في معركة انتقاميّة ليست معركته،قتله الزنوج انتقاما من أفعال البيض ظنا منهم أنه أبيض،وبقي في الثلاجة أياما لم يستلمه بعدها أحد،فتخلصوا من بدنه بطريقة ما،وفي هوليود فتاة تتدرب حاليّا على التمثيل،تربت في مدارس خاصة،وأمها تحكي لها أوصاف أبيها العربي الذي قذف في رحمها بمائه عندما كانت في لوس أنجلوس لسبب من الأسباب،وهذا ما يجعل راوي القصة يشك ّ بلا يقين أنها ابنة الزنا لهذا الفارّ من بلدته،المشارك في التغطية على مرتكب ذلك الفعل المشين في مسقط رأسه. ولكن من أين للعجوز أن يحيط بكل هذا العلم وهو لا يملك عين الراوي التي لا تشبه في استقصائها إلا الأقمار الصناعية،وعين الراوي كعادته مستعدة للانتقال من أي مكان إلى أي مكان في العالم مهما تبدت المعلومة المطلوبة تافهة إزاء الجهد المبذول،والحقيقة المحضة هي أنه لا يوجد أي جهد مبذول غير إعمال الذهن،ويمكن أن يُفسر هذا القول على أن الراوي يقصد به أكثر من قول عارض،وأقول قد يكون هذا،ولكن ماذا عما يعرفه العجوز من قصة رحيل الرجال الثلاثة الذي ما زال يخجل عوائلهم حتى اليوم؟ العجوز يعرف شيئا وغابت عنه أشياء،والحقيقة المكتملة،هي أنّ أحد العسكر كان يتسلل إلى بيت من البيوت،عن طريقة فتحة صنعتها ابنة البيت في الصفيح،بحيث تستطيع إعادتها إلى وضعها بدون أن يلاحظ والدها،وكشفت أمها أنها تقابل هذا الجندي كل ليلة وتتحدث معه،لاحظوا معي أنها تتحدث فقط،ولهذا السبب تجاهلت الأم كبعض الأمهات،ونظرا لأن الأمر كان قريبا والحديث كان مسموعا ولا يندرج في دوائر المحظور-نظرا لذلك فإن الأم سكتت على مضض،ولتكون على اطلاع بما يجري،محتفظة بزمام المبادرة وتحكمها في عنصر المفاجأة،ونحن لا نتعرض الآن للحكم على أيّ من هذه المعطيات بل نكشفها،هذا ما يهمنا. ولذا سنتطرق بعد هذا العرض بسرعة إلى أن الجندي،في الليلة التالية لتأكّد خبر النكسة مائة بالمائة،في هذه الليلة حرقه قلبه وغلبه عشقه فجاء متخفيا وهو غير متأكد إن كان الأب موجودا أم لا،وتسلل عبر الزريبة بين الغنم،ومر من جوار شباك الدجاج الطامن،وشعرت به الحيوانات فأحدثت جلبة،وخرج الأب في ظلمة الليل في وجهه صائحا:من أنت؟! فلم يجد الجندي إلا أن يضربه في رأسه ضربة دامغة.سقط الرجل وشمّ الروث لأول مرة في عمره من هذا القرب،واستنشقت خياشيمه غبار الأرض قبل أن يغمى عليه،وولى الجندي المرعوب هارباً. وخرجت الأم مولولة مفزوعة،وعندما أصبح الصباح بالخير وسلامة الأب والعِرض –من منظور الأم طبعا- عندها كتمتْ سر الجندي واستغلت زمام المبادرة فكشفت للبنت إدراكها للموضوع وطمأنتها على مصيرها بشرط أن تكون هذه تجربتها الأولى والأخيرة في هذا المجال الملغوم،وبالفعل وافقت البنت وانتهى دورها ودور أمها في سردنا. كان الأب يشتبه في واحد من شباب ثلاثة كانوا يضايقون البلد بكونهم يسهرون الليل، يتجولون على أعتاب البيوت بادية أصواتهم،يسهرون مع الجند، يقامرونهم ويعودون تبعا لوضعهم البرجوازي في البلدة ليناموا حتى الضحى،هدّدهم الأب وهدّد ذويهم.وتعرض الشباب لتهمة شرف مخزيَة،وشكّ بعضهم في بعض لأنهم لم تفرقوا كعادتهم في آخر الليل،ولا يعلم أحدهم أين كان الآخران في الوقت الذي لم يكن معهما فيه،ومع تجاوز الظرف لمستواه المنطقي دخلت فيه حسابات وعواقب،ولكنهم كانوا مطمئنين إلى أنّهم لا يحتملون العيش والأصابع تشير إليهم -أو لا تشير ولكن العيون تتكلم-،وبطريقة ما –ربما كانت غير مفهومة لهم حتى هم- اتفقوا ثلاثتهم على ترك القرية؛وكان هذا مرضِيا جدّا لوالد البنت المهان،ومفخرة أبديّة له. أما في الجهة الأخرى –أعني جهة العسكر- جاء الجندي للضابط وأخبره بالحاصل وهو لا يدري إن كان أبو البنت حيا الآن أم لا،وبعد التأكد من سلامة الأب كان تصور الضابط للقضية قد ورّطه في الشعور بشيء من المسؤولية،فعاقب الجندي بالسوط أمام نظرائه،وأمر العسكر بالتهيئة لترك هذه البلدة الطيبة نظرا لأنه لم يعد له وجه يقابل به أهلها الشرفاء،بعد إهانتهم،بل بعد أن كاد يموت أحدهم بسبب حماقات جنده التي لا يأمن عدم تكرارها،فما دامت الدنيا دنيا ذكور وإناث فالجنود هم سمومها. الأب العجوز حكى القصة بطريقته وبمعلوماته التي لا تتضمن معرفة الفاعل،ولا أي توقع لدور الجنود الخارجيين،ولكن روايته تستبعد أنّ ثلاثة الرجال تورطوا في الفعلة كلهم،لأن تاريخ البلدة لم يشهد أي تآمر لاثنين على شرف،بل كان مرتكبوها عشاقا فرادى يتخفون و يخرجون على التقاليد وهم في حالات يأس مكبوتة،بالطبع لا ينبني هذا التصور على قرينة ما،بل على عدم وجود أي سابقة تجعله ممكنا،ولذا فهو في نفس الوقت لا يستبعد أن واحدا منهم على الأقل غير بريء من تهمة تدنيس أرض الجار وشرفه؛وبناء عليه فهو يعتقد أن اثنين منهم على الأقل كانا جبانيْن،وتواطآ مع الصداقة والستر على صاحبهما،على حساب شرف البلد. لقد انشغلنا بالسرد عن الوصف،ولم نذكر أنّ الابن المتين مع أنه لا يشبه أباه إلا في أذنه،فإنه كان يختلف معه في صفة مميّزة؛فأذنه كثيفة الشعر،وهو لفظ مجازي -إذا سمحتم لي باستخدامه- يعنى أنّه لا يترك كل ما يحكى له يمرّ عبثا من أذنه إلى قلبه بلا تدقيق؛فقصة الشرف وافتراض أن بقاء الشباب كان لا بد منه لأجل الحفاظ على سمعتهم وسمعة أسرهم،هذه الحبكة لم تنجح في العبور إلى إيمان الابن،بل جعلته يتصور أن العجوز يعاني من فقدان القدرة في استخدام المخزون التاريخي الشخصي للاستعمال في الوقت المناسب،وهذا يوقع العجوز المسكين في التعرض لأن يظن من يسمعه أنه لم يستفد من سنين عمره كثيرا،بمعنى أشد قسوة:أن عمر عقله أقصر من عمر بدنه. فقد الابن صبره قائلا: ولكن يا أبي لماذا نصرّ على أن الشرف قضيتنا التي نموت من أجلها حتى بين الغرفة والحمام؟ فأجابه الأب:الحقيقة يا ولدي أنه لا شرف لنا بين الأمم رغم أننا نفني أنفسنا بداعي الشرف،ونعمر قبورنا بدلا من بيوتنا بداعي الشرف. ابتسم الابن قائلا لنفسه إن أباه سياسي في كل شيء،ولكن الحقيقة أن أباه تخلص بهذه الكلمة من فشل حكايته،لأنه هو نفسه أحسّ في مرحلة من مراحل كلامه بأن قصة أبناء البلدة العاقّين لها ليست صالحة للاستمرار في سردها،ولكنّه كان يعوّل على صورته ونبرات صوته،ويعقد الأمل على حضور أبوّته الجريحة في انتفاضة أخيرة. نسيت أيضا فلم أتذكّر القول بأنهما كانا وحيدين في غرفته،وبأن الليل مضى عليهما وهما يتناقشان حتى أعياهما السهر،وعندها،ولأول مرة بعد تمييز الابن للأشياء، نام مع أبيه جنبا إلى جنبا،وهما يستأنفان الحديث ويهدآن بفعل النعاس ثم يستأنفانه؛أما الأم العجوز فنامت في مخدعها وحيدة،سهرت معهما قليلا في البداية،وعندما فقدت القدرة على الصبر قالت إنه كان عليها أن تدرك من البداية أنّ الأمر أكبر من أن يفيد وجودها سوى مضاعفة الهم على قلبها،على هذا الأساس باتت في مخدعها،لا ندري إن كانت نامت أو بقيت تنتظر على مضض ما سيتوصلان إليه،فهذا ليس من الأهمية بمكان،وليس من أكليشيهاتنا الضرورية لنروي،وهي تغادر قصتنا من هذه اللحظة. في النهاية قال الابن مصارحا أباه: -أنت نفسك يا أبي كنت تعتقد بتميّزي،وأني لن أجلب عليك العار لأي سبب،فكيف يكون سفري لمعرفة الدنيا وتحسين وضع أسرتي سببا في تعريضي وتعريضكم للخزي؟! لم يستطع الأب أن يقول له:أنا كنت أقول هذا لأبث السرور في قلبك الصغير،وإلا فليس هنالك أحد يضمن أن مستقبله سيكون خاليا من العار،مهما بلغ إيمانه.ولكنه قال له:فعلا كنت ذكيا،وكنت في بعض الأحيان ترى ما لا نراه. واستمر يحكي: -أنت بالطبع لا تتذكر،ولكنني أذكر عندما قلتَ ونحن في المجلس إن جارنا سالم ضرّاط ،ولم نفهم ما تقوله إلا عندما تطور المرض في فمه وازدادت رائحة البخر،وصارت له رائحة كرائحة الفساء. ضحك الابن جذلا وهو يستحلف أباه: بالله عليك أمانة،أنا قلت هذا؟! أجابه أبوه بالإيجاب واستطرد:- وعندما قلتَ إنّ عمر جارتنا فلانة أربعون عاما ضحكنا منك لأنها كانت ابنة ثلاثين،ولكنها ماتت بعد عشر سنين وهي في الأربعين فتذكرنا مقولتك واعتبرناها مما تطرحه العناية من المقولات على ألسن الصبية،ولا نفهمه إلا بعد فوات أوان فهمها،لقد كنتَ بريئا من صغرك إلى الآن،ولكن لا يعني هذا أنني سأرضى لك أن تضيع مني. ابتسم الابن كالحالم،رغم أنه لا يتذكر،ورغم أنه توقّع أن أباه نصب له مصيدة من حنان ليقع فيها،وفرش لأبيه وسادته ونام الأب ونام الابن على ذراعه كأيام طفولته،وبكيا قبل أن يستغرقا في النوم، ثم أخذتهما سنة نوم عميقة.وفي الصباح صوتت السيارة بنبرتين عاليتين،فتعانقا باكيين،وقبل الولد رأس والدته وغادر البلدة،وقد يأتي اليوم الذي يقول الناس فيه:مات العجوزان قبل أن يعود. |
04-27-2006 | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||
ذهبي نشيط
|
s72.gif
|
||
04-27-2006 | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||
ثمالي نشيط
|
أخي نجم سهيل /
سأكون أصدق من مر على متصفحك قرأته من أول سطر حتى آخر سطر وما طلعت بشيء فالمعذرة لم أجد شيء جميل أخطه لك |
||
مواقع النشر |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | الردود | آخر مشاركة |
قبس من نور الهجرة... | أبو عبيدة | إلا رســـول الله | 1 | 02-03-2006 08:28 PM |