05-20-2009 | رقم المشاركة : ( 61 ) | ||
مشرف الأقسام التعليمية
|
رد: رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمران بن حصين - شبيه الملائكة
عام خيبر، أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا.. ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير، فآلى على نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب، وكريم.. هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق. وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق، والزهد، والورع، والتفاني وحب الله وطاعته... وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا، ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي، ويبكي، ويقول: " يا ليتني كنت رمادا، تذروه الرياح"..!! ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب، فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب.. انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله،وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته، فمهما يضرعوا، ويركعوا، ومهما يسجدوا، ويعبدوا.. ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: " يا رسول الله، مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا دنيانا، وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك، ولقينا أهلنا، وأولادنا، ودنيانا، أنكرنا أنفسنا..؟؟" فأجابهم عليه السلام: " والذي نفسي بيده، لو تدومون على حالكم عندي، لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن ساعة.. وساعة. وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!! ** وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله، وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به، ويستضيؤن بتقواه. قال الحسن البصري، وابن سيرين: " ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين" كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل، استغرق في العبادة، واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها.. أجل.. صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة، يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم.. ** ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين، بين فريق علي وفريق معاوية، لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب، بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس: " لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت، أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب".. وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا: " الزم مسجدك.. فان دخل عليك، فالزم بيتك.. فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله".. ** وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح، حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما، ما ضجر منه ولا قال: أفّ.. بل كان مثابرا على عبادته قائما، وقاعدا وراقدا.. وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة، ابتسم لها وقال: " ان أحبّ الأشياء الى نفسي، أحبها الى الله"..!! وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت: " اذا رجعتم من دفني، فانحروا وأطعموا".. أجل لينحروا ويطعموا، فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا، انما هو حف زفاف عظيم، ومجيد، تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين... |
||
|
|||
05-20-2009 | رقم المشاركة : ( 62 ) | ||
مشرف الأقسام التعليمية
|
رد: رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة
يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة. لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة. وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول. ** هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه. لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة. وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا. فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهدمجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول.. وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه.. هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه.. وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها.. يقول عن نفسه: " ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول: " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار: هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير. فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟ فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!! هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء. وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!! سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟ فأجاب: " بلسام سؤل.. وقلب عقول".. فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة.. ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات: " ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس.. ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله".. وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال: " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس.. ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه.. ولا أفقه في رأي منه.. ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه.. ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها.. وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!! ** ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال: " انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث.. آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث.. وبحسن الاستماع اذا حدّث.. وبأيسر الأمرين اذا خولف.. وتارك المراء.. ومصادقة اللئام.. وما يعتذر منه"..!! ** وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه.. حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال: " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر.. رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب.. فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد.. ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم. ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام.. فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم.. ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا.. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم.. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر.. فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!! وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة.. كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار.. ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته.. ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل.. بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب.. ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة.. سألهم ابن عباس: " ماذا تنقمون من عليّ..؟" قالوا: " ننتقم منه ثلاثا: أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله.. والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!! والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.." وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال: " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟ ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم.. فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!! وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه: " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟ وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم.. وانتقل ابن عباس الى الثالثة: " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك.. فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!! واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!! ** ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء. فهو في جوده وسخائه امام وعلم.. انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!! ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون: " ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!! وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا. وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس.. يقول عن نفسه: " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم.. واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!! واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!" ** وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن.. فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه. ** وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته. وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر.. عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره. وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين.. صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين. ** وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه.. وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان. وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق: ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) |
||
05-20-2009 | رقم المشاركة : ( 63 ) | ||
مشرف الأقسام التعليمية
|
رد: رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون
عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال: " ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتار بكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!! وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب.. فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه: " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟ ** انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري.. غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق.. وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين.. وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين.. وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر.. ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا.. وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة.. وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين.. ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة.. وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم: " ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة. " فهم مني.. وانا منهم"..!! ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها.. ** أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة.. فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال.. وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!! وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل: " قضاة هذه الأمة أربعة: " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!! ثم هو مع هذا، صاحب فطرة بريئة، من خدعه في الله، انخدع له..!! وهو عظيم الولاء والمسؤولية.. وكبير الثقة بالناس.. لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة: " الاخلاص وليكن ما يكون".. في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه: " سيّد الفوارس، أبو موسى"..!! وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول: " خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!! وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال.. فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد.. ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم.. بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة.. ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!! ** وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم.. وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة.. ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء.. واتقى الجيشان.. جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا.. وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة.. وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته.. وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة. ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما. واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه.. ** على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور... يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول: " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..! كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له: " شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى".. كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله.. أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا. ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها. ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية. هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه. بيد أن الموقف كما سنراه، وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ، انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل، عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق، وبالناس، ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا، كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية. نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد. ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا، وليتنازل عنها معاوية، على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون. هكذا ناقش أبو موسى القضية، وهكذا كان حله. صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة. وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام، في رأي أبي موسى، قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية، لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار.. بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب. فازاحة أسباب النزاع والحرب، وتنحية أطرافه، مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص.. ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم، أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس، أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا. وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية، بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم.. ولم يكن في دين أبي موسى، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين، ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد، تزيد الأمور سوءا... ** بدأ التحيكم بين الفريقين.. أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي.. وعمرو بن العاص، يمثل جانب معاوية. والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية. ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين، الأشعري، وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله. ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها.. ان مغزى اقتراح أبي موسى، أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي.. ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم.. وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته، فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله. ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم، فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم، فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار.. وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية.. ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما: أبو موسى: يا عمرو، هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟ عمرو: وما هو..؟ أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب. عمرو: وأين أنت من معاوية..؟ أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها. عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟ أبو موسى: بلى.. عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان، وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا، اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه.. أبو موسى: اتق الله يا عمرو.. أمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟ وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه عمرو بن عثمان.. ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر.. عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟ أبو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر.. عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر..!! أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة. عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين، عليّا ومعاوية، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يحبوا.. عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه.. ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه.. ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة.. بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء.. فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف.. اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية.. واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه، فابن عثمان رضي الله عنه، اولى بهذه الولاية من معاوية.. ** لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده.. فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتخنار خليفتها.. ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي.. ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة، سيلجأ الى المناورة، هما يكن اقتناعه بمعاوية.. ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه.. حذره من مناورات عمرو وقال له: " أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم أنت بعده"..! لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو، ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه.. واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي، وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية.. ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له: " ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!! وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين. وقال: " أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة، ويصلح أمرها، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية، وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها.. واني قد خلعت عليا ومعاوية.. فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"... وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية، كما خلع أبو موسى عليا، تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس... وصعد عمرو المنبر، وقال: " أيها الناس، ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه، ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.."!! ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة.. وعاد من جديد الى عزلته، وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام.. كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم... ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن.. وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم.. وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة.. وولاه الخليفة عثمان الكوفة.. ** وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا.. ومن كلماته المضيئة عن القرآن: " اتبعوا القرآن.. ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!! وكان من اهل العبادة المثابرين.. وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول: " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة".. ** وذات يوم رطيب جاءه أجله.. وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز تلك هي: " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"... |
||
05-20-2009 | رقم المشاركة : ( 64 ) | ||
مشرف الأقسام التعليمية
|
رد: رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال: " خذوا القرآن من أربعة: عبدالله بن مسعود.. وسالم مولى أبي حذيفة.. وأبيّ بن كعب.. ومعاذ بن جبل.." ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأبيّ،ومعاذ.. فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟ انه سالم، مولى أبي حذيفة.. كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها.. ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة.. وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة. ذلك أنه كان رقيقا وأعتق.. وآمن باله ايمانا مبكرا.. وأخذ مكانه بين السابقين الأولين.. وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش.. وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة.. وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها.. وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني.. وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه.. فـ زيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة.. ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!! ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا.. فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخزوانهم في الله وفي الاسلام.. ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!! وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقسقا، لا يعرف أبوه.. لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!! تلك عظمة الاسلام الفريدة.. بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!! ** لقد آمن سالم ايمان الصادقين.. وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين.. فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار.. لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم... أساس تلخصه الآية الجليلة: " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!! والحديث الشريف: " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى".. و" ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى".. ** في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا.. بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!! وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!! أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء.. وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!! وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له: " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!! وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه: " سالم من الصالحين"..!! ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة.. كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد.. كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق. وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا.. انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها.. ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها.. ** بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين.. وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد.. وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء.. هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول: " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!! والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول: " ان في سيف خالد رهقا".. وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب.. ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت.. وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة.. لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا. لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!! ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب.. ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول: " الدين النصيحة.. الدين النصيحة.. الدين النصيحة". ** ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد.. سأل عليه السلام قائلا: " هل أنكر عليه أحد"..؟؟ ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!! وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له: " نعم.. راجعه سالم وعارضه".. وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين.. لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة.. وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا.. ** وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى.. وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين.. وجاء يوم اليمامة.. وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها.. وخرج المسلمون للقتال.. وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة.. وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته.. وجمعهم خالد بن الوليد من جديد.. وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة.. وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة.. وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!! كان أبو حذيفة ينادي: " يا أهل القرآن.. زينوا القرآن بأعمالكم". وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب. وكان سالم يصيح: " بئس حامل القرآن أنا.. لو هوجم المسلمون من قبلي"..!! حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!! وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام.. وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب... ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة: ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)... ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!! ** وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين.. وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير.. وسألهم: ما فعل أبو حذيفة..؟؟ قالوا: استشهد.. قال: فأضجعوني الى جواره.. قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!! وابتسم ابتسامته الأخيرة.. ولم يعد يتكلم..!! لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!! معا أسلما.. ومعا عاشا.. ومعا استشهدا.. يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!! وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت: " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!! |
||
05-20-2009 | رقم المشاركة : ( 65 ) | |
موقوف
|
رد: رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
بارك الله فيك
دام لنا عطاءك |
|
مواقع النشر |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | الردود | آخر مشاركة |
تم الأنتهاء من موقع رسول الله صلى الله عليه وسلم .... | سيف العرب | إلا رســـول الله | 8 | 11-21-2009 02:54 AM |
حسبنا الله على من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم | ولد المملكـة | إلا رســـول الله | 5 | 01-24-2008 06:16 PM |
.. اخر كلمات قالها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم؟؟ | بَنتْ الأصَآيلْ | الــمـنـتـدى الإسـلامــــــــي | 10 | 11-25-2006 03:11 AM |
تربية الأبناء على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم | Naif | الأسرة و الـتربـيـة | 3 | 02-07-2006 05:00 AM |
قصيده ولا أروع للشاعر/ السامر في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم | أبوجنى | إلا رســـول الله | 2 | 02-06-2006 04:14 PM |